فصل: فصل اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ فِي الْإِلْحَاقِ بِالنّسَبِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد (نسخة منقحة)



.فصل انْقِطَاعُ نَسَبِ وَلَدِ اللّعَانِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ:

الْحُكْمُ السّادِسُ انْقِطَاعُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَلّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَهَذَا هُوَ الْحَقّ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَجَلّ فَوَائِدِ اللّعَانِ وَشَذّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَالَ الْمَوْلُودُ لِلْفِرَاشِ لَا يَنْفِيهِ اللّعَانُ الْبَتّةَ لِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَإِنّمَا يَنْفِي اللّعَانُ الْحَمْلَ فَإِنْ لَمْ يُلَاعِنْهَا حَتّى وَلَدَتْ لَاعَنَ لِإِسْقَاطِ الْحَدّ فَقَطْ وَلَا يَنْتَفِي وَلَدُهَا مِنْهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ حُزَمٍ وَاحْتُجّ عَلَيْهِ بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى أَنّ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ قَالَ فَصَحّ أَنّ كُلّ مَنْ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَدٌ فَهُوَ وَلَدُهُ إلّا حَيْثُ نَفَاهُ اللّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ حَيْثُ يُوقِنُ بِلَا شَكّ أَنّهُ لَيْسَ وَلَدَهُ وَلَمْ يَنْفِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا وَهِيَ حَامِلٌ بِاللّعَانِ فَقَطْ فَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى لَحَاقِ النّسَبِ قَالَ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إنّ صَدَقَتَهُ {وَلَا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلّا عَلَيْهَا} [الْأَنْعَامُ 164] فَوَجَبَ أَنّ إقْرَارَ الْأَبَوَيْنِ يَصْدُقُ عَلَى نَفْيِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ كَسْبًا عَلَى غَيْرِهِمَا وَإِنّمَا نَفَى اللّهُ سُبْحَانَهُ الْوَلَدَ إذَا أَكْذَبَتْهُ الْأُمّ وَالْتَعَنَتْ هِيَ وَالزّوْجُ فَقَطْ فَلَا يَنْتَفِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ انْتَهَى كَلَامُهُ. وَهَذَا ضِدّ مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إنّهُ لَا يَصِحّ اللّعَانُ عَلَى الْحَمْلِ حَتّى تَضَعَ كَمَا يَقُولُ أَحْمَد وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالصّحِيحُ صِحّتُهُ عَلَى الْحَمْلِ وَعَلَى الْوَلَدِ بَعْدَ وَضْعِهِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشّافِعِيّ فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ. وَلَا تَنَافِي بَيْنَ هَذَا الْحُكْمِ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ بِوَجْهِ مَا فَإِنّ الْفِرَاشَ قَدْ زَالَ بِاللّعَانِ وَإِنّمَا حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفِرَاشِ وَدَعْوَى الزّانِي فَأَبْطَلَ دَعْوَى الزّانِي لِلْوَلَدِ وَحَكَمَ بِهِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَاهُنَا صَاحِبُ الْفِرَاشِ قَدْ نَفَى الْوَلَدَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ لَوْ لَاعَنَ لِمُجَرّدِ نَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ قِيَامِ الْفِرَاشِ فَقَالَ لَمْ تَزْنِ وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَدِي؟. قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلشّافِعِيّ وَهُمَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ. إحْدَاهُمَا: أَنّهُ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ وَهِيَ اخْتِيَارُ الْخِرَقِيّ.
وَالثّانِيَةُ أَنّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ فَيَنْتَفِي عَنْهُ بِلِعَانِهِ وَحْدَهُ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ تَيْمِيّةَ وَهِيَ الصّحِيحَةُ. فَإِنْ قِيلَ فَخَالَفْتُمْ حُكْمَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ قُلْنَا: مَعَاذَ اللّهِ بَلْ وَافَقْنَا أَحْكَامَهُ حَيْثُ وَقَعَ غَيْرُنَا فِي خِلَافِ بَعْضِهَا تَأْوِيلًا فَإِنّهُ إنّمَا حَكَمَ بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ حَيْثُ ادّعَاهُ صَاحِبُ الْفِرَاشِ فَرَجّحَ دَعْوَاهُ بِالْفِرَاشِ وَجَعَلَهُ لَهُ وَحَكَمَ بِنَفْيِهِ عَنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ حَيْثُ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَطَعَ نَسَبَهُ مِنْهُ وَقَضَى أَلّا يُدْعَى وَقُلْنَا بِالْأَمْرَيْنِ وَلَمْ نُفَرّقْ تَفْرِيقًا بَارِدًا جِدّا سَمِجًا لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ حَمْلًا وَنَفْيِهِ مَوْلُودًا فَإِنّ الشّرِيعَةَ لَا تَأْتِي عَلَى هَذَا الْفَرْقِ الصّورِيّ الّذِي لَا مَعْنَى تَحْتَهُ الْبَتّةَ وَإِنّمَا يَرْتَضِي هَذَا مَنْ قَلّ نَصِيبُهُ مِنْ ذَوْقِ الْفِقْهِ وَأَسْرَارِ الشّرِيعَةِ وَحِكَمِهَا وَمَعَانِيهَا وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَبِهِ التّوْفِيقُ.

.فصل إلْحَاقُ وَلَدِ اللّعَانِ بِأُمّهِ:

الْحُكْمُ السّابِعُ إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِأُمّهِ عِنْدَ انْقِطَاعِ نَسَبِهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ وَهَذَا الْإِلْحَاقُ يُفِيدُ حُكْمًا زَائِدًا عَلَى إلْحَاقِهِ بِهَا مَعَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ وَإِلّا كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ فَإِنّ خُرُوجَ الْوَلَدِ مِنْهَا أَمْرٌ مُحَقّقٌ فَلَا بُدّ فِي الْإِلْحَاقِ مِنْ أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا كَانَ حَاصِلًا مَعَ ثُبُوتِ النّسَبِ مِنْ الْأَبِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَفَادَ هَذَا الْإِلْحَاقُ قَطْعَ تَوَهّمِ انْقِطَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمّ كَمَا انْقَطَعَ مِنْ الْأَبِ وَأَنّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى أُمّ وَلَا إلَى أَب فَقَطَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا الْوَهْمَ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمّ وَأَكّدَ هَذَا بِإِيجَابِهِ الْحَدّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ أَوْ قَذَفَ أُمّهُ وَهَذَا قَوْلُ الشّافِعِيّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَكُلّ مَنْ لَا يَرَى أَنّ أُمّهُ وَعَصَبَاتِهَا لَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ثَانِيَةٌ بَلْ أَفَادَنَا هَذَا الْإِلْحَاقُ فَائِدَةً زَائِدَةً وَهِيَ تَحْوِيلُ النّسَبِ الّذِي كَانَ إلَى أَبِيهِ إلَى أُمّهِ وَجَعْلُ أُمّهِ قَائِمَةً مَقَامَ أَبِيهِ فِي ذَلِكَ فَهِيَ عَصَبَتُهُ وَعَصَبَاتُهَا أَيْضًا عَصَبَتُهُ فَإِذَا مَاتَ حَازَتْ مِيرَاثَهُ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصّوَابُ لِمَا رَوَى أَهْلُ السّنَنِ الْأَرْبَعَةُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ تَحُوزُ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ مَوَارِيثَ: عَتِيقَهَا وَلَقِيطَهَا وَوَلَدَهَا الّذِي لَاعَنَتْ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ: مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ جَعَلَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا وَفِي السّنَنِ أَيْضًا مُرْسَلًا: مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ قَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِيرَاثَ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ لِأُمّهِ وَلِوَرَثَتِهَا مِنْ بَعْدِهَا وَهَذِهِ الْآثَارُ مُوَافِقَةٌ لِمَحْضِ الْقِيَاسِ فَإِنّ النّسَبَ فِي الْأَصْلِ لِلْأَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ مِنْ جِهَتِهِ صَارَ لِلْأُمّ كَمَا أَنّ الْوَلَاءَ فِي الْأَصْلِ لِمُعْتِقِ الْأَبِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ رَقِيقًا كَانَ لِمُعْتِقِ الْأُمّ. فَلَوْ أَعْتَقَ الْأَبَ بَعْدَ هَذَا انْجَرّ الْوَلَاءُ مِنْ مَوَالِي الْأُمّ إلَيْهِ وَرَجَعَ إلَى أَصْلِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا كَذّبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ وَاسْتَلْحَقَ الْوَلَدَ رَجَعَ النّسَبُ وَالتّعْصِيبُ مِنْ الْأُمّ وَعَصَبَتِهَا إلَيْهِ. فَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ وَمُوجَبُ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ وَهُوَ مَذْهَبُ حَبْرِ الْأُمّةِ وَعَالِمِهَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَمَذْهَبُ إمَامَيْ أَهْلِ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِمَا أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَعَلَيْهِ يَدُلّ الْقُرْآنُ بِأَلْطَفِ إيمَاءٍ وَأَحْسَنِهِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ عِيسَى مِنْ ذُرّيّةِ إبْرَاهِيمَ بِوَاسِطَةِ مَرْيَمَ أُمّهِ وَهِيَ مِنْ صَمِيمِ ذُرّيّةِ إبْرَاهِيمَ وَسَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرٍ لِهَذَا عِنْدَ ذِكْرِ أَقْضِيَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَحْكَامِهِ فِي الْفَرَائِضِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ الّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ فِي قِصّةِ اللّعَانِ وَفِي آخِرِهِ ثُمّ جَرَتْ السّنّةُ أَنْ يَرِثَ مِنْهَا وَتَرِثَ مِنْهُ مَا فَرَضَ اللّهُ لَهَا؟ قِيلَ نَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَالْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مُدْرَجًا مِنْ كَلَامِ ابْنِ شِهَابٍ وَهُوَ الظّاهِرُ فَإِنّ تَعْصِيبَ الْأُمّ لَا يُسْقِطُ مَا فَرَضَ اللّهَ لَهَا مِنْ وَلَدِهَا فِي كِتَابِهِ وَغَايَتُهَا أَنْ تَكُونَ كَالْأَبِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ لَهُ الْفَرْضُ وَالتّعْصِيبُ فَهِيَ تَأْخُذُ فَرْضَهَا وَلَابُدّ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أَخَذَتْهُ قَائِلُونَ بِالْآثَارِ كُلّهَا فِي هَذَا الْبَابِ بِحَمْدِ اللّهِ وَتَوْفِيقِهِ.

.فصل يُحَدّ قَاذِفُهَا وَقَاذِفُ وَلَدِهَا:

الْحُكْمُ الثّامِنُ أَنّهَا لَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدّ وَهَذَا لِأَنّ لِعَانَهَا نَفَى عَنْهَا تَحْقِيقَ مَا رُمِيَتْ بِهِ فَيُحَدّ قَاذِفُهَا وَقَاذِفُ وَلَدِهَا هَذَا الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ السّنّةُ الصّحِيحَةُ الصّرِيحَةُ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْأُمّةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وَلَدٌ نُفِيَ نَسَبُهُ حُدّ قَاذِفُهَا وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ نُفِيَ نَسَبُهُ لَمْ يُحَدّ قَاذِفُهَا وَالْحَدِيثُ إنّمَا هُوَ فِيمَنْ لَهَا وَلَدٌ نَفَاهُ الزّوْجُ وَاَلّذِي أَوْجَبَ لَهُ هَذَا الْفَرْقَ أَنّهُ مَتَى نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا فَقَدْ حَكَمَ بِزِنَاهَا بِالنّسْبَةِ إلَى الْوَلَدِ فَأَثّرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ حَدّ الْقَذْفِ.

.فصل لَا تَتَرَتّبُ الْأَحْكَامُ السّابِقَةُ إلّا بَعْدَ تَمَامِ اللّعَانِ:

الْحُكْمُ التّاسِعُ أَنّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ إنّمَا تَرَتّبَتْ عَلَى لِعَانِهِمَا مَعًا وَبَعْدَ أَنْ تَمّ اللّعَانَانِ فَلَا يَتَرَتّبُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى لِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ وَقَدْ خَرّجَ أَبُو الْبَرَكَاتِ بْنُ تَيْمِيّةَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ انْتِفَاءَ الْوَلَدِ بِلِعَانِ الزّوْجِ وَحْدَهُ وَهُوَ تَخْرِيجٌ صَحِيحٌ فَإِنّ لِعَانَهُ كَمَا أَفَادَ سُقُوطَ الْحَدّ وَعَارَ الْقَذْفِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ لِعَانِهَا أَفَادَ سُقُوطَ النّسَبِ الْفَاسِدِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ تُلَاعِنْ هِيَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنّ تَضَرّرَهُ بِدُخُولِ النّسَبِ الْفَاسِدِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ تَضَرّرِهِ بِحَدّ الْقَذْفِ وَحَاجَتَهُ إلَى نَفْيِهِ عَنْهُ أَشَدّ مِنْ حَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ الْحَدّ فَلِعَانُهُ كَمَا اسْتَقَلّ بِدَفْعِ الْحَدّ اسْتَقَلّ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَاللّهُ أَعْلَمُ.

.فصل وُجُوبُ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ:

الْحُكْمُ الْعَاشِرُ وُجُوبُ النّفَقَةِ وَالسّكْنَى لِلْمُطَلّقَةِ وَالْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ فَإِنّهُ قَالَ مِنْ أَجْلِ أَنّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفّى عَنْهَا فَأَفَادَ ذَلِكَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: سُقُوطُ نَفَقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا مِنْ الزّوْجِ.
وَالثّانِي: وُجُوبُهُمَا لَهَا وَلِلْمُتَوَفّى عَنْهَا إذَا كَانَتَا حَامِلَيْنِ مِنْ الزّوْجِ.

.فصل اعْتِبَارُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ فِي الْإِلْحَاقِ بِالنّسَبِ:

صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ إرْشَادٌ مِنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى اعْتِبَارِ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ وَأَنّ لِلشّبَهِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ النّسَبِ وَإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الشّبَهِ وَإِنّمَا لَمْ يَلْحَقْ بِالْمُلَاعِنِ لَوْ قُدّرَ أَنّ الشّبَهَ لَهُ لِمُعَارَضَةِ اللّعَانِ الّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْ الشّبَهِ لَهُ كَمَا تَقَدّمَ.

.فصل مَنْ قَتَلَ رَجُلًا فِي دَارِهِ مُدّعِيًا زِنَاهُ بِحَرِيمِهِ قُتِلَ بِهِ إنْ لَمْ يَأْتِ بِبَيّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ الْوَلِيّ:

وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ لَوْ أَنّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ بِه دَلِيلٌ عَلَى أَنّ مَنْ قَتَلَ رَجُلًا فِي دَارِهِ وَادّعَى أَنّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ حَرِيمِهِ قُتِلَ فِيهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إذْ لَوْ قُبِلَ قَوْلُهُ لَأُهْدِرَتْ الدّمَاءُ وَكَانَ كُلّ مَنْ أَرَادَ قَتْلَ رَجُلٍ أَدْخَلَهُ دَارَهُ وَادّعَى أَنّهُ وَجَدَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ. وَلَكِنْ هَاهُنَا مَسْأَلَتَانِ يَجِبُ التّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا. إحْدَاهُمَا: هَلْ يَسَعُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ أَمْ لَا؟ وَالثّانِي: هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ أَمْ لَا؟ وَبِهَذَا التّفْرِيقِ يَزُولُ الْإِشْكَالُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ الصّحَابَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ حَتّى جَعَلَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَقَالَ مَذْهَبُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَمَذْهَبُ عَلِيّ: أَنّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَاَلّذِي غَرّهُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَيْنَا هُوَ يَوْمًا يَتَغَدّى إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ يَعْدُو وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ مُلَطّخٌ بِدَمِ وَوَرَاءَهُ قَوْمٌ يَعْدُونَ فَجَاءَ حَتّى جَلَسَ مَعَ عُمَرَ فَجَاءَ الْآخَرُونَ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ هَذَا قَتَلَ صَاحِبَنَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّي ضَرَبْت بَيْنَ فَخِذَيْ امْرَأَتِي فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أحد فقد قَتَلْته فَقَالَ عُمَرُ مَا تَقُولُونَ؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّهُ ضَرَبَ بِالسّيْفِ فَوَقَعَ فِي وَسَطِ الرّجُلِ وَفَخِذَيْ الْمَرْأَةِ فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَيْفَهُ فَهَزّهُ ثُمّ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَقَالَ إنْ عَادُوا فَعُدْ فَهَذَا مَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. وَأَمّا عَلِيّ فَسُئِلَ عَمّنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءُ فَلْيُعْطَ بِرُمّتِهِ فَظَنّ أَنّ هَذَا خِلَافُ الْمَنْقُولِ عَنْ عُمَرَ فَجَعَلَهَا مَسْأَلَةَ خِلَافٍ بَيْنَ الصّحَابَةِ وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْتَ حُكْمَيْهِمَا لَمْ تَجِدْ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافًا فَإِنّ عُمَرَ إنّمَا أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ لَمّا اعْتَرَفَ الْوَلِيّ بِأَنّهُ كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَاللّفْظُ لِصَاحِبِ الْمُغْنِي: فَإِنْ اعْتَرَفَ الْوَلِيّ بِذَلِكَ فَلَا قِصَاصَ وَلَا دِيَةَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ثُمّ سَاقَ الْقِصّةَ وَكَلَامُهُ يُعْطِي أَنّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا وَغَيْرَ مُحْصَنٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ عُمَرَ فِي هَذَا الْقَتِيلِ وَقَوْلُهُ أَيْضًا: فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ وَلَمْ يُفَرّقْ بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْمُسْتَوْعِبِ قَدْ قَالَ وَإِنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنَالُ مِنْهَا مَا يُوجِبُ الرّجْمَ فَقَتَلَهُ وَادّعَى أَنّهُ قَتَلَهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ إلّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيّنَةٍ بِدَعْوَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ قَالَ وَفِي عَدَدِ الْبَيّنَةِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: شَاهِدَانِ اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ لِأَنّ الْبَيّنَةَ عَلَى الْوُجُودِ لَا عَلَى الزّنَى وَالْأُخْرَى لَا يُقْبَلُ أَقَلّ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَالصّحِيحُ أَنّ الْبَيّنَةَ مَتَى قَامَتْ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرّ بِهِ الْوَلِيّ سَقَطَ الْقِصَاصُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَعَلَيْهِ يَدُلّ كَلَامُ عَلِيّ فَإِنّهُ قَالَ فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ إنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلْيُعْطَ بِرُمّتِهِ وَهَذَا لِأَنّ هَذَا الْقَتْلَ لَيْسَ بِحَدّ لِلزّنَى وَلَوْ كَانَ حَدّا لَمَا كَانَ بِالسّيْفِ وَلَاعْتُبِرَ لَهُ شُرُوطُ إقَامَةِ الْحَدّ وَكَيْفِيّتُهُ وَإِنّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ لِمَنْ تَعَدّى عَلَيْهِ وَهَتَكَ حَرِيمَهُ وَأَفْسَدَ أَهْلَهُ وَكَذَلِكَ فَعَلَ الزّبَيْرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَمّا تَخَلّفَ عَنْ الْجَيْشِ وَمَعَهُ جَارِيَةٌ لَهُ فَأَتَاهُ رَجُلَانِ فَقَالَا: أَعْطِنَا شَيْئًا فَأَعْطَاهُمَا طَعَامًا كَانَ مَعَهُ فَقَالَا: خَلّ عَنْ الْجَارِيَةِ فَضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ مَنْ ثُقْبٍ أَوْ شَقّ فِي الْبَابِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَنَظَرَ حُرْمَةً أَوْ عَوْرَةً فَلَهُمْ خَذْفُهُ وَطَعْنُهُ فِي عَيْنِهِ فَإِنْ انْقَلَعَتْ عَيْنُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنّهُمْ يَدْفَعُونَهُ وَلَا ضَمَان عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيل. فَقَالَ يَدْفَعُهُ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلَ فَيَبْدَأُ بِقَوْلِهِ انْصَرِفْ وَاذْهَبْ وَإِلّا نَفْعَلْ بِك كَذَا. قُلْت: وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ وَلَا فِي السّنّةِ الصّحِيحَةِ مَا يَقْتَضِي هَذَا التّفْصِيلَ بَلْ الْأَحَادِيثُ الصّحِيحَةُ تَدُلّ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنّ فِي الصّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَعْضِ حُجَرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ إلَيْهِ بِمِشْقَصِ أَوْ بِمَشَاقِصَ وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ فَأَيْنَ الدّفْعُ بِالْأَسْهَلِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَخْتِلُهُ أَوْ يَخْتَبِئُ لَهُ وَيَخْتَفِي لِيَطْعَنَهُ. وَفِي الصّحِيحَيْنِ أَيْضًا: مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّ رَجُلًا اطّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي يَدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِدْرًى يَحُكّ بِهِ رَأْسَهُ فَلَمّا رَآهُ قَالَ لَوْ أَعْلَمُ أَنّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ به في عَيْنِك إنّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَر وَفِيهِمَا أَيْضًا: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «لَوْ أَنّ امْرَءًا اطّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةِ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» وَفِيهِمَا أَيْضًا: «مَنْ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ وَلَا قِصَاصَ». وهذا اختيارُ شيخ الإسلام ابْنِ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ وَقَالَ لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ الصّائِلِ بَلْ مِنْ بَابِ عُقُوبَةِ الْمُعْتَدِي الْمُؤْذِي وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى قَتْلُ مَنْ اعْتَدَى عَلَى حَرِيمِهِ سَوَاءٌ كَانَ مُحْصَنًا أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَعْرُوفٍ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْأَصْحَابِ وَفَتَاوَى الصّحَابَةِ وَقَدْ قَالَ الشّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْرٍ: يَسَعُهُ قَتْلُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ الزّانِي مُحْصَنًا جَعَلَاهُ مِنْ بَابِ الْحُدُودِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يُهْدَرُ دَمُهُ إذَا جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ وَلَمْ يَفْصِلَا بَيْنَ الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُحْصَنًا وَأَقَامَ الزّوْجُ الْبَيّنَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِلّا قُتِلَ بِهِ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إذَا قَامَتْ الْبَيّنَةُ فَالْمُحْصَنُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ سَوَاءٌ وَيُهْدَرُ دَمُهُ وَاسْتَحَبّ ابْنُ الْقَاسِمِ الدّيَةَ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ.
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَن سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ الرّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا أَيَقْتُلُهُ؟ فَقَالَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا فَقَالَ سَعْدٌ بَلَى وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُم وَفِي اللّفْظِ الْآخَرِ إنْ وَجَدْتُ مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتّى آتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ إنْ كُنْتُ لَأُعَاجِلهُ بِالسّيْفِ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَعُوا إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ إنّهُ لَغَيُورٌ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللّهُ أَغْيَرُ مِنّي؟ قُلْنَا: نَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَالْقَوْلِ بِمُوجَبِهِ وَآخِرُ الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يُقَدْ بِهِ لِأَنّهُ قَالَ بَلَى وَاَلّذِي أَكْرَمَكَ بِالْحَقّ وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ لَمَا أَقَرّهُ عَلَى هَذَا الْحَلِفِ وَلَمَا أَثْنَى عَلَى غَيْرَتِهِ وَلَقَالَ لَوْ قَتَلْتَهُ قُتِلْتَ بِهِ وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ صَرِيحٌ فِي هَذَا فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ فَوَاَللّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللّهُ أَغْيَرُ مِنّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَلَا نَهَاهُ عَنْ قَتْلِهِ لِأَنّ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمٌ مُلْزِمٌ وَكَذَلِكَ فَتْوَاهُ حُكْمٌ عَامّ لِلْأُمّةِ فَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي قَتْلِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِأَنّ دَمَهُ هَدَرٌ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ وَبَاطِنِهِ وَوَقَعَتْ الْمَفْسَدَةُ الّتِي دَرَأَهَا اللّهُ بِالْقِصَاصِ وَتَهَالَكَ النّاسُ فِي قَتْلِ مَنْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فِي دُورِهِمْ وَيَدّعُونَ أَنّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُمْ عَلَى حَرِيمِهِمْ فَسَدّ الذّرِيعَةَ وَحَمَى الْمَفْسَدَةَ وَصَانَ الدّمَاءَ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْقَاتِلِ وَيُقَادُ بِهِ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ فَلَمّا حَلَفَ سَعْدٌ أَنّهُ يَقْتُلُهُ وَلَا يَنْتَظِرُ بِهِ الشّهُودَ عَجِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَيْرَتِهِ وَأَخْبَرَ أَنّهُ غَيُورٌ وَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللّهُ أَشَدّ غَيْرَةً وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إقْرَارُهُ وَسُكُوتُهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ سَعْدٌ أَنّهُ جَائِزٌ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ وَنَهْيُهُ عَنْ قَتْلِهِ فِي ظَاهِرِ الشّرْعِ وَلَا يُنَاقِضُ أَوّلُ الْحَدِيثِ آخِرَهُ.
وَالثّانِي: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ذَلِكَ كَالْمُنْكِرِ عَلَى سَعْدٍ فَقَالَ أَلَا تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيّدُكُمْ يَعْنِي: أَنَا أَنْهَاهُ عَنْ قَتْلِهِ وَهُوَ يَقُولُ بَلَى وَاَلّذِي أَكْرَمَك بِالْحَقّ ثُمّ أَخْبَرَ عَنْ الْحَامِلِ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُخَالَفَةِ وَأَنّهُ شِدّةُ غَيْرَتِهِ ثُمّ قَالَ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ وَاللّهُ أَغْيَرُ مِنّي. وَقَدْ شَرَعَ إقَامَةَ الشّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ شِدّةِ غَيْرَتِهِ سُبْحَانَهُ فَهِيَ مَقْرُونَةٌ بِحِكْمَةٍ وَمَصْلَحَةٍ وَرَحْمَةٍ وَإِحْسَانٍ فَاللّهُ سُبْحَانَهُ مَعَ شِدّةِ غَيْرَتِهِ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ إقَامَةِ الشّهُودِ الْأَرْبَعَةِ دُونَ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْقَتْلِ وَأَنَا أَغْيَرُ مِنْ سَعْدٍ وَقَدْ نَهَيْته عَنْ قَتْلِهِ وَقَدْ يُرِيدُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِكَلَامِهِ وَسِيَاقِ الْقِصّةِ.